"إلى ولدي" هو كتاب للمؤلف المصري البارز أحمد أمين، ويُعد من أبرز الأعمال الأدبية في العالم العربي. يتناول الكتاب مجموعة من المواضيع التي يعرضها الكاتب من منظور أب مسنّ يكتب إلى ابنه، وكأنه في مواجهة الموت. تأتي هذه الرسائل محملة بمشاعر الحب والإرشاد، مع الأمل في أن يقود ابنه إلى حياة أفضل.
يستعرض الكاتب التحولات الجذرية التي شهدها العالم، وتأثيراتها العميقة على المجتمعات العربية، وخاصة فيما يتعلق بالعقائد والقيم والمعتقدات. يحاول الكاتب تسليط الضوء على الفوارق بين الجيل الحالي والجيل الذي نشأ فيه، خلال أواخر القرن التاسع عشر، وذلك من خلال مناقشة قضايا حديثة ومعقدة. الكتاب يبرز كهمسات لرجل عجوز مرتبك أمام التغيرات السريعة في الأعراف المجتمعية. ومع ذلك، تتسم الرسالة الأولى التي يوجهها الكاتب إلى ابنه بوعي ذاتي عميق، مصحوب بالتعاطف والتفهم للفجوة الجيلية التي تفصل بينهما—وهو أمر نادر في مثل هذه الحوارات. الكتاب مليء برؤية تاريخية متميزة، تكرم التنوع الغني للقيم عبر الأزمنة والأمكنة.
دعوني أقتبس بإطالة المقطع الافتتاحي للكتاب، الذي يعكس بوضوح مستوى من التسامح والتعاطف تجاه التحولات المستمرة والطبيعة المتغيرة للقيم والمعايير. الأستاذ أمين لا ينظر إلى الاختلافات التي قد تظهر في ابنه كموضع للحكم أو الاستياء، بل يحتضنها باعتبارها نتائج طبيعية لتطور الزمن وتغير السياقات الاجتماعية والنمو الشخصي. فهو، بنظرته التاريخية الثاقبة، يرى هذه التغيرات في شخصية ابنه ليست بوصفها انحرافات أو تمردات على ما هو مألوف، بل كتحولات فرضها الزمن والبيئة:
أي بني: إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غير زمني، وربيت تربية غير تربيتي، ونشأت في بيئة غير بيئتي — لقد كنت في زمني عبد التقاليد والأوضاع، وأنت في زمن يكسر التقاليد والأوضاع، وكنت في زمن شعاره الطاعة، الطاعة لأبي ولأولياء أمري، وأنت في زمن شعاره التمرد، التمرد على سلطة الآباء، وعلى المعلمين وعلى أولي الأمر — وتعلمت أول أمري في كتاب حقير، نجلس فيه على الحصير، ويعلمنا مدرس جبار، يضرب على الهفوة وعدم الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وأنت تعلمت في روضة الأطفال حيث تشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة، وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك. وكنت أعيش في كتابي على الفول النابت والفول المدمس، وأنت تعيش في روضتك على اللبن والشاي والبسكويت وما إلى ذلك أيضا.
ثم لما صبوت تعلمت في المدارس الفرنسية حيث تنقل إليك في تعاليمها كل أساليب المدنية الغربية — وتربيت أنا في وسط كله دين — دين في الكتب ودين في الحياة الاجتماعية ودين في أوساطي كلها. وتربيت أنت في مدارس أو جامعات لا يذكر فيها الدين إلا بمناسبات. وكان يذكر الدين في وسطنا دائما ليحترم، وكثيرا ما يذكر الدين في وسطك ليهاجم. ونشأت في وسط لا تذكر فيه السياسة إلا لماًما، ونشأت في وسط كله سياسة وإضراب وأكثر من الإضراب. ونشأت في وسط لا يعرف المرأة إلا محجبة، ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة، ونشأت أنت في وسط تجالسك الفتاة في جامعتك وتشاهدها في أوساطك وقد أخذت من الحرية مثل ما أخذت؛ ولو عددت لك الفروق بيني وبينك، في زمني وزمنك، وتعليمي وتعليمك، وبيئتي وبيئتك، لطال الأمر. ولكن برغم كل هذا فالفروق مهما كانت فروق جزئية، ولا يزال بيني وبينك وجوه شبه أعمق من هذه المظاهر
يتعامل الكاتب مع هذه التحولات بحكمة وهدوء، فلا يصدر أحكامًا قيمية عليها، بل يدرك أنها مجرد انعكاسات للزمان والمكان، وهي تجليات طبيعية لزمن يتغير بشكل لا يمكن للإنسان أن يلومه أو يعاتبه. أمين يدعو ابنه إلى التفهم والانسجام مع هذه التغيرات، مشيرًا إلى أن كل جيل له معاييره الخاصة ومرجعيته التي تشكلته بناءً على الظروف التي عاشها. فالتغير، بحسبه، هو جزء لا يتجزأ من رحلة الإنسان عبر الحياة، والتكيف معه هو السبيل لتحقيق التوازن الداخلي والتعايش مع العالم المتغير.
الأستاذ أمين في هذا الفقره الجميلة لا يفرض رؤيته على ابنه، بل يفتح بابًا للحوار والتأمل في تلك الاختلافات، مؤكداً أن لكل جيل قيمه ومعاييره التي تتشكل وفق تطورات الزمان والمكان، دون أن تكون هذه التغيرات مدعاة للقلق أو الصراع.
لكن للأسف، يسرع الكتاب في الانحدار إلى نرجسية متوقعة ومتعبة. يبدأ الكتاب بطرح رؤية عالمية تقدمية، تعترف بالتعددية القيمية وتبدو مشجعة على قبول التنوع، ولكنه سرعان ما يعود إلى تبني العقائد الجامدة.
على سبيل المثال، من بين الشكاوى المتكررة التي يعبر عنها الكاتب، يظهر بوضوح عدم ارتياحه لفكرة أن الأجيال الحديثة لم تعد تعتبر نفسها ملزمة بالخضوع إلى الكيانات غير البشرية—سواء كانت إلهية كالله، أو طبيعية كوطن. يعبر الكاتب لابنه عن أسفه العميق حيال هذا التحول في الهياكل القيمية، من اعتماد على تلك السلطات الخارجية الثابتة إلى إطار تتحدد فيه السلطة من خلال الاتفاقات الإنسانية بين الأفراد. في هذا النموذج الجديد، يصبح الإنسان مسؤولًا فقط أمام البشر الآخرين، دون أي التزام يتجاوز ذلك.
الكاتب يرى في هذا التحول جانبًا سلبيًا، ولكنه للأسف لا يقدم أي تبرير عقلاني مقنع لدوافع موقفه. يبدو أنه يعتمد على فرضية ضمنية بأن القراء سيتفقون معه ببساطة، مستندًا إلى الاعتقاد السائد أو ربما على قناعات تم ترسيخها مسبقًا لدى جمهوره. هذا التوجه يظهر بوضوح في النص حين يلمح إلى أن الابتعاد عن القيم المطلقة التي كانت تقرها تلك الكيانات هو دليل على انحطاط أخلاقي، لكنه لا يقدم أي حجة فعلية لتوضيح لماذا يجب علينا بالضرورة الالتزام بتلك السلطات الخارجية، أو لماذا يُعد الانتقال إلى نموذج يقوم على المسؤولية المشتركة بين البشر أمرًا سيئًا.
بهذا، يبدو أن الكتاب الذي بدأ متحررًا ومنفتحًا على التعددية، يختزل في النهاية في سردية تقليدية تغلب عليها العقائد الصارمة. تنزلق الرؤية الأدبية من سياق واسع يحتفي بالتحولات الإنسانية، إلى ضيق أفق يعيد القيم القديمة دون مساءلة أو مراجعة، متوقعًا تأييدًا تلقائيًا من القارئ، دون أن يتكبد عناء إقناع أو إثارة التساؤل.
فهناك بالفعل نظرتان مختلفتان تمامًا للدين. الأولى تفترض أن الشوق الديني أو الرغبة في البحث عن المقدس هو جزء أساسي وأولي من طبيعة الإنسان، وهو سابق على أي تأثير ثقافي. وفقًا لهذا الرأي، يُعتبر الدين جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية نفسها، بحيث يكون الشخص المتدين مترددًا في قبول تخصيص الدين ليصبح أمرًا شخصيًا أو فرديًا. من هذا المنطلق، يُنظر إلى الدين كشيء يتجاوز الفرد، بل يمتد ليشمل جميع البشر، ويجب أن يعمّم على الجميع دون استثناء
أما النظرة الثانية، فتتبنى فكرة أن البحث عن "الحقيقة" أو "الله" ليسا مبرمجين طبيعيًا في البشر، بل هما منتجات للتكوين الثقافي. من هذا المنظور، يُعترف بأن التاريخ مليء بالثقافات التي لم تعرف مفهوم الدين كما نعرفه اليوم، أو التي تبنّت أنماطًا مختلفة تمامًا من الإيمان أو اللا-إيمان. هذه النظرة ترى أن التنوع في التجارب والمعتقدات الدينية هو نتيجة طبيعية للتباين الثقافي، وأنه من المناسب والطبيعي أن تكون للأفراد مقاربات شخصية ومختلفة تجاه الدين بناءً على خلفياتهم وتجاربهم الحياتية.
لكن الكاتب، كما يتضح من نصه، يميل بوضوح إلى النظرة الأولى. فهو يرى أن عدم الشعور بالدين أو عدم اعتناق شكل محدد من الإيمان هو علامة على الرداءة أو الانحراف، ويعبر عن ذلك بطريقة قد تبدو قاسية وغير متفهمة. يرفض فكرة أن الشعور الديني يمكن أن يختلف بين الأشخاص، وبدلاً من أن يحتضن التنوع في المعتقدات والتجارب الدينية، يراها علامة على الضعف أو حتى المرض. هذا الموقف يعكس تحفظًا على التعددية في المجال الديني، مما يحد من انفتاح الخطاب على تنوع التجارب الإنسانية.
إن تمسك الكاتب بهذه النظرة المغلقة للدين يجعله يتجاهل البُعد الثقافي والتاريخي للدين، ويغلق الباب أمام إمكانية فهم أوسع وأكثر تعقيدًا للعلاقة بين الإنسان والمقدس. يتضح هنا أن الكاتب، رغم تبنيه في بداية الكتاب لنبرة تصالحية مع التغيير، يعود إلى إطار فكري محافظ يقاوم التنوع والاختلاف، مما يجعل الخطاب في النهاية يبدو وكأنه تراجع عن تلك البداية الواعدة.
وبالرغم من أن الكاتب يقدم صورة للتوتر بين الشرق والغرب، مستندًا إلى فكرة أن الإيمان الراسخ بالله هو أساس سعادة المجتمعات العربية، إلا أن الأساليب التي استخدمها لتأييد هذا الادعاء تبدو غامضة وغير مدعومة بتحليل متين. ما هو المعيار الذي اعتمده لتحديد السعادة؟ وكيف يمكن تمييز "السعادة" وفقًا لمعايير شخصية أو ثقافية؟ والأهم، كيف يتعامل الكاتب مع احتمال أن يكون الأفراد الآخرين، سواء من مجتمعه أو خارجه، غير متفقين مع تلك المعايير؟
تطرح هذه التساؤلات تساؤلًا أعمق حول مدى شمولية رؤية الكاتب. فهو يفترض أن هناك رابطًا جوهريًا بين التدين والسعادة، لكنه لا يوضح كيف توصل إلى هذا الاستنتاج، ولا يقدم أدلة أو حججًا قوية لدعم هذا الادعاء. يبدو أن الكاتب يعتمد على قبول غير نقدي من القارئ، مفترضًا أن الجمهور سيوافق بشكل تلقائي على فكرة أن السعادة هي تلك المرتبطة بالقيم الدينية، دون تقديم تفسير ملموس أو إطار موضوعي لهذا الربط.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه النظرة ربما كانت قد تبدو مفهومة ضمن السياق التاريخي لكتابة النص، حيث يمثل الكاتب جيلًا كتب في أوائل القرن العشرين، وهي فترة كانت تشهد مواجهة حضارية بين الشرق والغرب، حيث كان العديد من المفكرين يسعون للحفاظ على الهوية الثقافية والدينية في مواجهة التأثيرات الغربية. ومع ذلك، فإن هذه الفرضيات بدأت تفقد مصداقيتها العلمية حتى في ذلك الوقت. بل وأكثر من ذلك، تشير الدراسات الحديثة إلى أن الدول الغربية، التي يميل بعضها إلى العلمانية والتوجهات الأقل تدينًا، تُظهر بشكل عام مستويات أعلى من السعادة والرفاهية وفقًا لمؤشرات عالمية.
مرة أخرى، يعتمد الكاتب في حجته على افتراضات ضمنية، دون أن يجتهد في تقديم أي معايير واضحة أو أدوات تحليلية لتقييم السعادة أو لفهم السياق الاجتماعي والثقافي بشكل أعمق. هذا النقص في التأصيل الفكري يجعل الخطاب غير مقنع بشكل كافٍ، حيث يعتمد بشكل مفرط على تأييد القارئ غير النقدي بدلاً من تزويده بحجج موضوعية أو أدلة ملموسة.
وكما يمتلئ سرد الكاتب بمبالغات درامية، يصور فيها سيناريوهات كرتونية تبدو خارج نطاق الواقعية، تزداد الرواية ضعفًا. إحدى هذه القصص، على سبيل المثال، تتحدث عن أستاذ جامعي يُعلِّم الفضائل مثل الأمانة والعدل، ويصبح محط سخرية من طلاب يروجون للخداع والدهاء. هذه القصة، التي تتجاوز حدود المعقولية، تعكس صورة مفرطة في التبسيط والانحياز، تجعل القارئ يشك في مصداقية التحليل الذي يقدمه الكاتب. مثل هذه المبالغات تحجب الرسالة الحقيقية خلف حجاب من التشويه، مما يجعلها تبدو أقرب إلى كليشيهات أدبية تهدف إلى إثارة العاطفة على حساب العقل.
الأسلوب المسرحي في تقديم هذه الحكايات يضعف التأثير المرجو ويثير الشكوك في عقول القراء المتبصرين، الذين قد يتساءلون عن الغرض الحقيقي من سرد تلك القصص. إذ بدلاً من أن يقدم الكاتب استبصارات دقيقة حول القيم المتغيرة، يلجأ إلى سيناريوهات شبه خيالية تجعل القارئ يشك في جدية طرحه. فتلك المبالغات لا تعزز النقاش أو تلهم التفكير النقدي، بل تنفر المتلقي العقلاني الذي يبحث عن حجج رصينة قائمة على تحليل متماسك.
ورغم هذه النقاط السلبية، لا يمكن إنكار أن تأملات الكاتب تنبع من حب عميق لابنه. فبين طيات النص، يظهر بوضوح أنه مدفوع برغبة صادقة في محاولة الفهم والتعاطف مع جيل يشعر بالانفصال عنه. تتجلى هذه الرغبة في نصائحه الصريحة والحس الأبوي الذي يحاول من خلاله توجيه ابنه في عالم لم يعد مألوفًا له. على الرغم من الاختلافات الجيلية والفجوات الفكرية الواضحة، يمكن للقارئ أن يلمس نبرة صادقة تفيض بالرغبة في مساعدة ابنه على التكيف مع عالم سريع التغير، حتى وإن كانت الوسائل التي يعتمد عليها الكاتب قديمة وغير ملائمة.
ختاماً، يمكننا وصف "إلى ولدي" بأنه تحليل متأرجح للهوة بين الأجيال، يميل في مواضع كثيرة إلى التكرار والاعتماد على افتراضات متوارثة دون فحص نقدي عميق. يشتت نفسه في سرديات مثقلة بالمبالغات الدرامية والحنين إلى الماضي، وهو ما يحدّ من فاعلية حججه. ومع ذلك، هناك ما ينقذه من السقوط التام، وهو ذلك القلق الوالدي الصادق الذي يتخلل النص، والذي لا يمكن إنكاره. فحتى وسط تشدد الأفكار وعجزها عن مواكبة التغيرات الاجتماعية والثقافية، يبقى صوت الأب حاملاً لمعاناة حقيقية وموقف إنساني يعبر عن خشية طبيعية على مستقبل ابنه في عالم متغير.